في ذكرى قاسم أمين: تدخل سافرة.. وتخرج منتقبة !
بقلم أحمد عبدالمعطي حجازي
29 /4 /2008
كنت أهيئ نفسي للكتابة عن درية شفيق في الذكري المئوية الأولي لميلادها حين انتبهت إلي أن هذا العام الذي ولدت فيه هذه السيدة العظيمة هو العام الذي رحل فيه قاسم أمين. قاسم أمين رحل في أبريل من عام ١٩٠٨، ودرية شفيق ولدت في ديسمبر من ذلك العام. فالذي انقطع برحيل محرر المرأة اتصل بميلاد بنت النيل. لهذا سأبدأ من البداية التي يبدو أنها صارت منسية مثلها مثل النهاية!
سأبدأ من قاسم أمين الذي لم نعد نعرفه ولم نعد نتذكره إلا في المناسبات. بل نحن ننساه حتي في المناسبات. وهل هناك أنسب للاحتفال به من الذكري المئوية الأولي لميلاده؟ كيف استقبلنا هذه الذكري التي لا تتكرر إلا كل مائة عام؟ وما الذي أعددناه فيها لنذكر به الذين نسوه، ونعرف به الذي جهلوه، ونرد عنه كيد الذين أفلحوا في إسكات صوته، وإحباط عمله؟ ما الكتب التي صدرت عنه، والندوات التي نظمت للتأريخ له وتقييم جهوده ومناقشة آرائه؟ بل السؤال الذي يسبق اليوم كل سؤال عن قاسم أمين هو: ماذا بقي من قاسم أمين؟
***
ولاشك في أن كثيرين يستطيعون أن يتحدثوا عما بقي في نظرهم من قاسم أمين. يستطيعون أن يقولوا إن المرأة التي لم يكن يسمح لها بأن تتعلم أو تعمل أو تشارك في حياة المجتمع أو تخرج حتي من دارها أصبحت تتعلم وتعمل وتتمتع بحقوقها السياسية، وتكون نائبة، وقاضية، ووزيرة.
وأنا لست غافلاً عن هذه التطورات التي تحققت خلال الأعوام المائة الماضية، ولا عن الجهود التي تبذل حتي الآن لتحسين وضع المرأة والاعتراف بحقها، لكنني حين أقارن بين استجابة المصريات والمصريين لقاسم أمين في النصف الأول من القرن العشرين واستجابتهم له الآن أقول بلا تردد إن قاسم أمين لم يبق منه شيء، أو لم يبق منه إلا بعض المزايا العملية التي حصلت عليها المرأة كأنها صدقة وليست حقًا.
لقد ارتفعت نسبة المتعلمات عما كانت عليه في أول القرن الماضي، وإن ظلت الأمية هي الغالبة علي النساء، وارتفعت بالتالي نسبة المشتغلات بالوظائف الحكومية. لكن التمييز بين الرجل والمرأة مازال قائمًا معمولاً به، وربما زادت حدته مع انتشار العنف والتطرف. من حق أي صعلوك جاهل أن يعتبر نفسه ولي أمر لأخته أو أمه مهما يكن علمها وعملها. ومن حقه حتي الآن أن يحاسبها، ويحدد إقامتها، ويقتلها إذا زين له ذلك جهله وسوء ظنه!
والجهود التي تشارك بها المرأة المصرية في الحياة العامة لاتزال محدودة. وأكثرها تنفيذ شكلي لقرارات علوية. أماالمجتمع نفسه فتسوده الآن روح معادية للمرأة ناقمة عليها. بل إن المرأة نفسها تستجيب الآن لهذه الروح وتتبني ما يقولها الرجعيون عنها وهم كثيرون، وتتهم من بنات جنسها من تجرؤ فتتمسك بحقوقها وتطالب بحريتها.
نعم. حصلت بعض النساء في العقود الأخيرة علي بعض المناصب التي لم تحصل عليها المرأة المصرية من قبل، لكن المرأة المصرية لاتزال محرومة من حقوقها الطبيعية. بل هي الآن تتنازل مضطرة حيناً ومختارة حيناً عما حققته في النصف الأول من القرن العشرين. إنها تتنازل عن حريتها، أي تتنازل عن إنسانيتها.
لم تكن قضية المرأة عند قاسم أمين محصورة في أن تقرأ وتكتب أو تحصل علي شهادة دراسية أو وظيفة حكومية، وإنما كانت قضيتها هي الحرية. أن تكون حرة، ولهذا يجب أن تتعلم وأن تعمل حتي تتحرر من الجهل والحاجة.
العلم يساعد المرأة في معرفة حقوقها واختيار مستقبلها. والوظيفة تمكنها من أن تستقل بنفسها، فلا تتنازل عن كرامتها لتعيش. لكن العلم ليس مجرد معلومات تحشي بها الرؤوس الفارغة كما يوضح قاسم أمين، ولكنه قبل كل شيء بحث عن الحقيقة، وتحرر من الوهم.
ولا قيمة لعلم لا تنتفع به المرأة في تربية عقلها وتربية جسمها. فالتربية «لازمة للمرأة - كما يقول قاسم أمين - في استكمال صحتها وحفظ جمالها». إلي أن العلم والعمل معًا وسيلتان لغاية هي الحرية التي تتحقق بها إنسانية الإنسان، رجلاً كان أو امرأة، فإذا جمع في يده كل الوسائل وخسر الغاية فقد خسر كل شيء. وهذه هي الحال التي انتهت إليها المرأة المصرية في هذه الأيام. لقد دخلت كلية الطب سافرة وخرجت منها منتقبة!
ما الذي جد علي المرأة المصرية إذن حين أتيح لها أن تدخل المدارس وأن تتخرج في الجامعة؟ لم يجد جديد. لأن العلم لم يفك قيودها، ولم يحررها من الوهم، ولم يعطها الحق في أن ترعي صحتها وتحافظ علي جمالها.
***
ونحن نقع في خطأ فادح إذا ظننا أن حرية المرأة يمكن أن تنفصل عن حرية الرجل، أو أن مجتمعًا تكون فيه المرأة مقيدة محرومة من حقوقها الطبيعية يمكن أن يكون فيه الرجل حرًا متمتعًا بحقوقه.
نعم، قد يسمح المجتمع للرجل بأن يقهر المرأة ويغتصب حقها، لأن الظروف جعلته أقوي منها. لكن المجتمع بهذا القانون ذاته الذي يجعل القوة فوق الحق يسمح لرجل آخر بأن يستعيد الأمة كلها رجالها ونساءها. وهذا ما نبهنا له قاسم أمين أيضًا منذ أكثر من مائة عام، حين تحدث عن تلازم الحالة السياسية والحالة العائلية في أي مجتمع «فشكل الحكومة يؤثر في الآداب المنزلية. والآداب المنزلية تؤثر في الهيئة الاجتماعية. وفي الشرق نجد المرأة في رق الرجل، والرجل في رق الحكومة. وحيثما تتمتع النساء بحريتهن الشخصية يتمتع الرجال بحريتهم السياسية».
لهذا نحتاج اليوم لأن نتذكر قاسم أمين، ولأن نقف إلي جانبه في الدعوة إلي تحرير المرأة. لأن تحرير المرأة يعني إبطال القانون الذي تقوم عليه النظم المستبدة. فالحجة واحدة: الرجل يزعم أن المرأة ضعيفة بطبعها، وأنها ناقصة عقل ودين، وأنها أحبولة الشيطان يصيد بها الرجال فلابد من أن يقيد حريتها ويفرض سلطانه عليها.
والحاكم المستبد يستخدم الحجة ذاتها. فالأمة غير مؤهلة لأن تحكم نفسها بنفسها لأي سبب يخترعه أو يتعلل به. أنها تمر بأزمة ما، أو أنها مهددة بالمتطرفين اليساريين أو اليمينيين، أو أن الأعداء يقفون لها بالمرصاد، فلا مفر من تجميع السلطة في يد واحدة!
استعباد المرأة يجر إلي استعباد الأمة، كما أن استعباد الأمة يجر إلي استعباد المرأة. وقد جربنا نحن هذه الأوضاع كلها.
في العهود التي وقعنا خلالها في قبضة الطغاة الشرقيين كان الرق قانونًا سائدًا، وكان تجارة رابحة، وكان النخاسون يملأون الأسواق. وكان سلاطين مصر في أيام المماليك يمنعون النساء «من الخروج إلي الترب (القرافة)، ومن لبس القمصان الواسعة الأكمام». ويروي المؤرخون أن الخليفة الفاطمي المجنون الحاكم بأمر الله أمر في عام ٤٠٥ هجرية بمنع النساء من الخروج من بيوتهن، ومن دخول الحمامات، ومن التطلع من الطاقات والأسطح، ومنع الخفّافين - صناع الأحذية - من عمل الخفاف لهن!
وكما كان استعباد المرأة قانونًا معمولاً به في عصور الطغيان والظلام كانت الدعوة لتحرير المرأة شرطًا من شروط النهضة الحديثة وشعارًا من شعاراتها الأساسية.
الطهطاوي عاد من بعثته في باريس مفتونًا بالمرأة الفرنسية التي وجدها تعمل وتتعلم وترعي بيتها وتربي أطفالها وتستقبل ضيوفها وتشارك في الحياة العامة وفي النشاط الاجتماعي، وتتجمل وتعتز بأنوثتها دون أن تتبذل أو تفرط في شرفها لأنها «لا تشرك في المحبة»، ولأن الشرف لا يرتبط بالحجاب أو بعدم الاختلاط، وإنما هو علي العكس من ذلك تربية تكون بها المرأة حرة مسؤولة عن نفسها.
وقد التزم الطهطاوي في حياته الزوجية ما يلتزمه الرجل الفرنسي فتعهد لزوجته - وهي بنت خاله - بألا يشرك معها زوجة أخري، وألا يخرجها من عصمته. وقد ظل وفيا لهذا العهد طول حياته.
والموقف الذي وقفه الطهطاوي إلي جانب المرأة وحقها في العلم والعمل والحياة الحرة وقفه محمد عبده الذي أعلن «أن الرجل والمرأة متماثلان في الحقوق والأعمال والشعور والعقل. والرجال الذين يحاولون بظلم النساء أن يكونوا سادة في بيوتهم إنما يلدون عبيدًا لغيرهم».
ولقد وجدت المرأة المصرية نفسها وحققت وجودها في ثورة ١٩١٩ التي انتزع فيها المصريون حقهم في الاستقلال والديمقراطية.
في ثورة ١٩١٩ لم يكن سعد زغلول وحده زعيمًا لكل المصريين وإنما كانت صفية زغلول معه أُمًا لكل المصريين. أما هدي شعراوي فلم تكتف بأن تكون زعيمة لنهضة نسائية، بل استطاعت أن تكون زعيمة لنهضة وطنية شاملة.
كانت هدي شعراوي ترسل النوابغ من الرجال والنساء ليكملوا تعليمهم في الخارج علي نفقتها. وهي التي قادت أول مظاهرة للنساء المصريات في ثورة ١٩١٩، مظاهرة لم تكن ضد المحتلين الإنجليز وحدهم، وإنما كانت أيضًا ضد الرجعيين المصريين الذين كانوا يرفضون أن تخرج المرأة من بيتها لتتعلم فإذا بالمرأة تخرج من بيتها لتواجه حراب الجنود الإنجليز وبنادقهم. وقد رأت هدي شعراوي أن تبدأ المتظاهرات مسيرتهن، ومعظمهن مسلمات بالطبع، من الكنيسة القبطية ردًا علي مشاركة رجال الدين الأقباط إخوانهم المسلمين في تأييد الثورة من علي منبر الأزهر، وتأكيدًا لوحدة الهلال والصليب، وتجسيدًا للشعار الذي رفعه الثوار «فالدين لله والوطن للجميع» وأخيرًا فهدي شعراوي التي قادت هذه المظاهرة السياسية هي التي قادت مظاهرة أخري نزعت فيها الحجاب باعتباره رمزًا للعبودية، وكان ذلك في عام ١٩٢٣ عند عودتها من إيطاليا بعد أن رأست أول وفد مصري يشارك في اجتماعات الاتحاد النسائي الدولي.
هكذا ظلت المرأة المصرية تتقدم من وضع إلي وضع أفضل وتنتقل من حال إلي حال أرقي حتي استولي العسكر علي السلطة في يوليو عام ١٩٥٢، وحلوا الأحزاب، وأبطلوا العمل بالدستور فوصلنا إلي ما وصلنا إليه الآن.
ليست المرأة المصرية وحدها التي خسرت الكثير مما حققته وعادت إلي الحجاب والنقاب، بل الأمة المصرية كلها. فالحجاب ليس زيا فقط، وليس غطاء للوجه فحسب، ولكنه قبل كل شيء ثقافة. موقف يقفه الإنسان من نفسه ومن الآخرين، وثقافة تفرض عليه أن يخاف، ويخفي نفسه، ويشك في الآخرين، ويرتاب فيهم، ويتوقع منهم الشر ويبتعد عنهم، وألا يكون واضحًا أو صريحًا.
لقد عدنا إذن إلي ما كنا عليه قبل قاسم أمين، فمن الطبيعي أن ننسي قاسم أمين، وأن ننسي سواه من زعماء النهضة الحديثة.
نحن لا نتحدث الآن عن محمد عبده، ولا ننتفع بعلمه، ولا نرجع إليه. لأن محمد عبده لم يكن شيخًا مقلدًا، وإنما كان مفكرًا مجتهدًا يصالح بين الدين والدنيا، وبين التراث والعصر، فيبشر بالعلم والديمقراطية، ويدافع عن حقوق المرأة وحقوق الإنسان. والمرحلة الراهنة مرحلة ارتداد تحتاج إلي شيوخ يكلمون الناس بلغة المصاطب، ويعودون بهم إلي عصور الخرافة والاستبداد والحريم، وينتفضون خوفًا من العقل والحرية.
وكما تراجع تراث قاسم أمين ومحمد عبده تراجع تراث سعد زغلول، وأحمد لطفي السيد، وتراجع تراث طه حسين، وعلي عبد الرازق، وسلامة موسي. وفي هذا - بالمناسبة - تحل الذكري الخمسون لرحيل سلامة موسي، فما الذي صنعناه له؟ الذي صنعناه لسلامة موسي هو الذي صنعناه لقاسم أمين، ومحمد عبده، وهدي شعراوي، ودرية شفيق. أعني لا شيء، لأنهم لم يعودوا يمثلون لنا في هذه المرحلة من تاريخنا شيئًا. لقد أصبحوا مجرد ماض مقطوع الصلة بالحاضر الذي نعيش فيه أو يكاد.
***
أريد أن أقول في الذكري المئوية الأولي لرحيل قاسم أمين إننا في حاجة إلي نهضة جديدة نستعيد بها ما فقدناه، ونستكمل مالم نستكمله. نهضة لا تتحرر بها المرأة وحدها، بل نتحرر بها جميعًا
بقلم أحمد عبدالمعطي حجازي
29 /4 /2008
كنت أهيئ نفسي للكتابة عن درية شفيق في الذكري المئوية الأولي لميلادها حين انتبهت إلي أن هذا العام الذي ولدت فيه هذه السيدة العظيمة هو العام الذي رحل فيه قاسم أمين. قاسم أمين رحل في أبريل من عام ١٩٠٨، ودرية شفيق ولدت في ديسمبر من ذلك العام. فالذي انقطع برحيل محرر المرأة اتصل بميلاد بنت النيل. لهذا سأبدأ من البداية التي يبدو أنها صارت منسية مثلها مثل النهاية!
سأبدأ من قاسم أمين الذي لم نعد نعرفه ولم نعد نتذكره إلا في المناسبات. بل نحن ننساه حتي في المناسبات. وهل هناك أنسب للاحتفال به من الذكري المئوية الأولي لميلاده؟ كيف استقبلنا هذه الذكري التي لا تتكرر إلا كل مائة عام؟ وما الذي أعددناه فيها لنذكر به الذين نسوه، ونعرف به الذي جهلوه، ونرد عنه كيد الذين أفلحوا في إسكات صوته، وإحباط عمله؟ ما الكتب التي صدرت عنه، والندوات التي نظمت للتأريخ له وتقييم جهوده ومناقشة آرائه؟ بل السؤال الذي يسبق اليوم كل سؤال عن قاسم أمين هو: ماذا بقي من قاسم أمين؟
***
ولاشك في أن كثيرين يستطيعون أن يتحدثوا عما بقي في نظرهم من قاسم أمين. يستطيعون أن يقولوا إن المرأة التي لم يكن يسمح لها بأن تتعلم أو تعمل أو تشارك في حياة المجتمع أو تخرج حتي من دارها أصبحت تتعلم وتعمل وتتمتع بحقوقها السياسية، وتكون نائبة، وقاضية، ووزيرة.
وأنا لست غافلاً عن هذه التطورات التي تحققت خلال الأعوام المائة الماضية، ولا عن الجهود التي تبذل حتي الآن لتحسين وضع المرأة والاعتراف بحقها، لكنني حين أقارن بين استجابة المصريات والمصريين لقاسم أمين في النصف الأول من القرن العشرين واستجابتهم له الآن أقول بلا تردد إن قاسم أمين لم يبق منه شيء، أو لم يبق منه إلا بعض المزايا العملية التي حصلت عليها المرأة كأنها صدقة وليست حقًا.
لقد ارتفعت نسبة المتعلمات عما كانت عليه في أول القرن الماضي، وإن ظلت الأمية هي الغالبة علي النساء، وارتفعت بالتالي نسبة المشتغلات بالوظائف الحكومية. لكن التمييز بين الرجل والمرأة مازال قائمًا معمولاً به، وربما زادت حدته مع انتشار العنف والتطرف. من حق أي صعلوك جاهل أن يعتبر نفسه ولي أمر لأخته أو أمه مهما يكن علمها وعملها. ومن حقه حتي الآن أن يحاسبها، ويحدد إقامتها، ويقتلها إذا زين له ذلك جهله وسوء ظنه!
والجهود التي تشارك بها المرأة المصرية في الحياة العامة لاتزال محدودة. وأكثرها تنفيذ شكلي لقرارات علوية. أماالمجتمع نفسه فتسوده الآن روح معادية للمرأة ناقمة عليها. بل إن المرأة نفسها تستجيب الآن لهذه الروح وتتبني ما يقولها الرجعيون عنها وهم كثيرون، وتتهم من بنات جنسها من تجرؤ فتتمسك بحقوقها وتطالب بحريتها.
نعم. حصلت بعض النساء في العقود الأخيرة علي بعض المناصب التي لم تحصل عليها المرأة المصرية من قبل، لكن المرأة المصرية لاتزال محرومة من حقوقها الطبيعية. بل هي الآن تتنازل مضطرة حيناً ومختارة حيناً عما حققته في النصف الأول من القرن العشرين. إنها تتنازل عن حريتها، أي تتنازل عن إنسانيتها.
لم تكن قضية المرأة عند قاسم أمين محصورة في أن تقرأ وتكتب أو تحصل علي شهادة دراسية أو وظيفة حكومية، وإنما كانت قضيتها هي الحرية. أن تكون حرة، ولهذا يجب أن تتعلم وأن تعمل حتي تتحرر من الجهل والحاجة.
العلم يساعد المرأة في معرفة حقوقها واختيار مستقبلها. والوظيفة تمكنها من أن تستقل بنفسها، فلا تتنازل عن كرامتها لتعيش. لكن العلم ليس مجرد معلومات تحشي بها الرؤوس الفارغة كما يوضح قاسم أمين، ولكنه قبل كل شيء بحث عن الحقيقة، وتحرر من الوهم.
ولا قيمة لعلم لا تنتفع به المرأة في تربية عقلها وتربية جسمها. فالتربية «لازمة للمرأة - كما يقول قاسم أمين - في استكمال صحتها وحفظ جمالها». إلي أن العلم والعمل معًا وسيلتان لغاية هي الحرية التي تتحقق بها إنسانية الإنسان، رجلاً كان أو امرأة، فإذا جمع في يده كل الوسائل وخسر الغاية فقد خسر كل شيء. وهذه هي الحال التي انتهت إليها المرأة المصرية في هذه الأيام. لقد دخلت كلية الطب سافرة وخرجت منها منتقبة!
ما الذي جد علي المرأة المصرية إذن حين أتيح لها أن تدخل المدارس وأن تتخرج في الجامعة؟ لم يجد جديد. لأن العلم لم يفك قيودها، ولم يحررها من الوهم، ولم يعطها الحق في أن ترعي صحتها وتحافظ علي جمالها.
***
ونحن نقع في خطأ فادح إذا ظننا أن حرية المرأة يمكن أن تنفصل عن حرية الرجل، أو أن مجتمعًا تكون فيه المرأة مقيدة محرومة من حقوقها الطبيعية يمكن أن يكون فيه الرجل حرًا متمتعًا بحقوقه.
نعم، قد يسمح المجتمع للرجل بأن يقهر المرأة ويغتصب حقها، لأن الظروف جعلته أقوي منها. لكن المجتمع بهذا القانون ذاته الذي يجعل القوة فوق الحق يسمح لرجل آخر بأن يستعيد الأمة كلها رجالها ونساءها. وهذا ما نبهنا له قاسم أمين أيضًا منذ أكثر من مائة عام، حين تحدث عن تلازم الحالة السياسية والحالة العائلية في أي مجتمع «فشكل الحكومة يؤثر في الآداب المنزلية. والآداب المنزلية تؤثر في الهيئة الاجتماعية. وفي الشرق نجد المرأة في رق الرجل، والرجل في رق الحكومة. وحيثما تتمتع النساء بحريتهن الشخصية يتمتع الرجال بحريتهم السياسية».
لهذا نحتاج اليوم لأن نتذكر قاسم أمين، ولأن نقف إلي جانبه في الدعوة إلي تحرير المرأة. لأن تحرير المرأة يعني إبطال القانون الذي تقوم عليه النظم المستبدة. فالحجة واحدة: الرجل يزعم أن المرأة ضعيفة بطبعها، وأنها ناقصة عقل ودين، وأنها أحبولة الشيطان يصيد بها الرجال فلابد من أن يقيد حريتها ويفرض سلطانه عليها.
والحاكم المستبد يستخدم الحجة ذاتها. فالأمة غير مؤهلة لأن تحكم نفسها بنفسها لأي سبب يخترعه أو يتعلل به. أنها تمر بأزمة ما، أو أنها مهددة بالمتطرفين اليساريين أو اليمينيين، أو أن الأعداء يقفون لها بالمرصاد، فلا مفر من تجميع السلطة في يد واحدة!
استعباد المرأة يجر إلي استعباد الأمة، كما أن استعباد الأمة يجر إلي استعباد المرأة. وقد جربنا نحن هذه الأوضاع كلها.
في العهود التي وقعنا خلالها في قبضة الطغاة الشرقيين كان الرق قانونًا سائدًا، وكان تجارة رابحة، وكان النخاسون يملأون الأسواق. وكان سلاطين مصر في أيام المماليك يمنعون النساء «من الخروج إلي الترب (القرافة)، ومن لبس القمصان الواسعة الأكمام». ويروي المؤرخون أن الخليفة الفاطمي المجنون الحاكم بأمر الله أمر في عام ٤٠٥ هجرية بمنع النساء من الخروج من بيوتهن، ومن دخول الحمامات، ومن التطلع من الطاقات والأسطح، ومنع الخفّافين - صناع الأحذية - من عمل الخفاف لهن!
وكما كان استعباد المرأة قانونًا معمولاً به في عصور الطغيان والظلام كانت الدعوة لتحرير المرأة شرطًا من شروط النهضة الحديثة وشعارًا من شعاراتها الأساسية.
الطهطاوي عاد من بعثته في باريس مفتونًا بالمرأة الفرنسية التي وجدها تعمل وتتعلم وترعي بيتها وتربي أطفالها وتستقبل ضيوفها وتشارك في الحياة العامة وفي النشاط الاجتماعي، وتتجمل وتعتز بأنوثتها دون أن تتبذل أو تفرط في شرفها لأنها «لا تشرك في المحبة»، ولأن الشرف لا يرتبط بالحجاب أو بعدم الاختلاط، وإنما هو علي العكس من ذلك تربية تكون بها المرأة حرة مسؤولة عن نفسها.
وقد التزم الطهطاوي في حياته الزوجية ما يلتزمه الرجل الفرنسي فتعهد لزوجته - وهي بنت خاله - بألا يشرك معها زوجة أخري، وألا يخرجها من عصمته. وقد ظل وفيا لهذا العهد طول حياته.
والموقف الذي وقفه الطهطاوي إلي جانب المرأة وحقها في العلم والعمل والحياة الحرة وقفه محمد عبده الذي أعلن «أن الرجل والمرأة متماثلان في الحقوق والأعمال والشعور والعقل. والرجال الذين يحاولون بظلم النساء أن يكونوا سادة في بيوتهم إنما يلدون عبيدًا لغيرهم».
ولقد وجدت المرأة المصرية نفسها وحققت وجودها في ثورة ١٩١٩ التي انتزع فيها المصريون حقهم في الاستقلال والديمقراطية.
في ثورة ١٩١٩ لم يكن سعد زغلول وحده زعيمًا لكل المصريين وإنما كانت صفية زغلول معه أُمًا لكل المصريين. أما هدي شعراوي فلم تكتف بأن تكون زعيمة لنهضة نسائية، بل استطاعت أن تكون زعيمة لنهضة وطنية شاملة.
كانت هدي شعراوي ترسل النوابغ من الرجال والنساء ليكملوا تعليمهم في الخارج علي نفقتها. وهي التي قادت أول مظاهرة للنساء المصريات في ثورة ١٩١٩، مظاهرة لم تكن ضد المحتلين الإنجليز وحدهم، وإنما كانت أيضًا ضد الرجعيين المصريين الذين كانوا يرفضون أن تخرج المرأة من بيتها لتتعلم فإذا بالمرأة تخرج من بيتها لتواجه حراب الجنود الإنجليز وبنادقهم. وقد رأت هدي شعراوي أن تبدأ المتظاهرات مسيرتهن، ومعظمهن مسلمات بالطبع، من الكنيسة القبطية ردًا علي مشاركة رجال الدين الأقباط إخوانهم المسلمين في تأييد الثورة من علي منبر الأزهر، وتأكيدًا لوحدة الهلال والصليب، وتجسيدًا للشعار الذي رفعه الثوار «فالدين لله والوطن للجميع» وأخيرًا فهدي شعراوي التي قادت هذه المظاهرة السياسية هي التي قادت مظاهرة أخري نزعت فيها الحجاب باعتباره رمزًا للعبودية، وكان ذلك في عام ١٩٢٣ عند عودتها من إيطاليا بعد أن رأست أول وفد مصري يشارك في اجتماعات الاتحاد النسائي الدولي.
هكذا ظلت المرأة المصرية تتقدم من وضع إلي وضع أفضل وتنتقل من حال إلي حال أرقي حتي استولي العسكر علي السلطة في يوليو عام ١٩٥٢، وحلوا الأحزاب، وأبطلوا العمل بالدستور فوصلنا إلي ما وصلنا إليه الآن.
ليست المرأة المصرية وحدها التي خسرت الكثير مما حققته وعادت إلي الحجاب والنقاب، بل الأمة المصرية كلها. فالحجاب ليس زيا فقط، وليس غطاء للوجه فحسب، ولكنه قبل كل شيء ثقافة. موقف يقفه الإنسان من نفسه ومن الآخرين، وثقافة تفرض عليه أن يخاف، ويخفي نفسه، ويشك في الآخرين، ويرتاب فيهم، ويتوقع منهم الشر ويبتعد عنهم، وألا يكون واضحًا أو صريحًا.
لقد عدنا إذن إلي ما كنا عليه قبل قاسم أمين، فمن الطبيعي أن ننسي قاسم أمين، وأن ننسي سواه من زعماء النهضة الحديثة.
نحن لا نتحدث الآن عن محمد عبده، ولا ننتفع بعلمه، ولا نرجع إليه. لأن محمد عبده لم يكن شيخًا مقلدًا، وإنما كان مفكرًا مجتهدًا يصالح بين الدين والدنيا، وبين التراث والعصر، فيبشر بالعلم والديمقراطية، ويدافع عن حقوق المرأة وحقوق الإنسان. والمرحلة الراهنة مرحلة ارتداد تحتاج إلي شيوخ يكلمون الناس بلغة المصاطب، ويعودون بهم إلي عصور الخرافة والاستبداد والحريم، وينتفضون خوفًا من العقل والحرية.
وكما تراجع تراث قاسم أمين ومحمد عبده تراجع تراث سعد زغلول، وأحمد لطفي السيد، وتراجع تراث طه حسين، وعلي عبد الرازق، وسلامة موسي. وفي هذا - بالمناسبة - تحل الذكري الخمسون لرحيل سلامة موسي، فما الذي صنعناه له؟ الذي صنعناه لسلامة موسي هو الذي صنعناه لقاسم أمين، ومحمد عبده، وهدي شعراوي، ودرية شفيق. أعني لا شيء، لأنهم لم يعودوا يمثلون لنا في هذه المرحلة من تاريخنا شيئًا. لقد أصبحوا مجرد ماض مقطوع الصلة بالحاضر الذي نعيش فيه أو يكاد.
***
أريد أن أقول في الذكري المئوية الأولي لرحيل قاسم أمين إننا في حاجة إلي نهضة جديدة نستعيد بها ما فقدناه، ونستكمل مالم نستكمله. نهضة لا تتحرر بها المرأة وحدها، بل نتحرر بها جميعًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق